درس الغيــر
مدخل تمهيدي
الإنسان كائن يختلف اختلافا كليا عن الحيوان الذي لا يتخطى مجرد الإحساس بالذات، فالإنسان يعي ذاته في اللحظة التي يقول فيها " أنا " بحسب تصور هيجل، وهو ما يعني الإحساس بالتفرد والتمايز عن باقي الموجودات بما فيها الآخر سواء كان شبيها أو غريبا عن الذات، فالواقع البشري هو واقع اجتماعي ، حيث الإنسان يعيش تجربة الحياة المشتركة مع الآخر مادام الإنسان كائنا إجتماعيا، لا يولد الإنسان إنسانا وإنما يصبح كذلك ، فحتى الحمقى والمجانين يشاركوننا في الإنتماء للإنسانية ، إننا لسنا وحدنا في هذا العالم فالآخر موجود معنا حتى ولو كان بعيدا عنا، ما دام يشغل حيزا من تفكيرنا .
أما من الناحية الفلسفية فالغير هو"الآخر" " الأنا الذي ليس أنا" (سارتر) وفي مقابل ذلك يدل لفظ الآخر على مفهوم غير قابل للتعريف لأنه عام يشمل كل ما يقابل " الهُوَ هُوَ"Le même.
إن الغير من الوجهة الفلسفية هو " آخر وليس آخر، في نفس الوقت "، أي، " مخالف" و" مطابق" فهو"ليس الأنا" من جهة وهو "الآخر المماثل للأنا" من جهة ثانية.
ويقصد بالأنا الذات المفكرة العارفة لنفسها في مقابل الموضوعات المتميزة عنها وعن تفكيرها. كما يقصد بالأنا كذلك الوعي الذي تملكه الذات عن فرديتها. ومن هنا يتبين أن الأنا يحمل دلالة أخلاقية قيمية، عكس الموضوعات المفتقرة إلى الوعي والحرية.
ـ البناء الإشكالي للمفهوم:
- المحور الأول وجود الغير :I
على الرغم من أن جذور فلسفة الغير بدأت مع الفلسفة اليونانية إلا أنها ظلت حبيسة التناول الأنطولوجي (الوجود)، ولم تتعداه إلى الجانب المعرفي، غير أنها عادت بقوة في العصر الحديث مع الفيلسوف هيجل كرد فعل ضد فلسفة الأنا أو الذات لدى ديكارت، فإذا كان ديكارت قد اعتقد أن الأنا يوجد في استقلال عن الآخر، فإن الأمر يختلف مع هيجل الذي أكد على أن الأنا أو الذات لا يوجد من خلال الآخر. فكيف يتحدد هذا الوجود؟ وما نوع العلاقة التي تقوم بين الأنا والآخر؟ ما هي إذن طبيعة وجود الغير؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الأنا والغير؟ وهل لأحدهما أن يوجد بمعزل عن الآخر؟
- المحور الثاني معرفة الغير:II
يتبين مما سبق أن الآخر موجود وجودا ماديا كما توجد الأشياء، وهو ما تبيّنه التجربة اليومية المعاشة، كما تبين لنا أن وجود الآخر البشري كأنا آخر ضروري لوجود الذات (أو الأنا)، ذلك ما يعني أن الوجود الإنساني وجود علائقي بيني وبين الآخر، وأن الكينونة الإنسانية الفردية لا يمكن إلا أن تمتد إلى خارج ذاتها، فتنشئ علاقات، بحيث يستحيل أن تكون معزولة، ومن بين هذه العلاقات العلاقة المعرفية. بداية هل معرفة الغير ممكنة؟ تم ما قيمة المعرفة التي يقيمها الأنا حول الآخر؟ وبعبارة أخرى هل يمكن للأنا أن يعرف الآخر معرفة دقيقة ؟
إذا كانت معرفة الآخر تقتضي التواصل، فما طبيعة هذا التواصل ؟ هل هو تواصل دون تشيئ أو استيلاب أو عنف ؟ وإذا كان دخول الأنا مع الغير في علاقات ضروريا فما الأوجه المختلفة لهذه العلاقات ؟
- المحور الثالث أوجه العلاقة مع الغير:III
سبق التأكيد على أن العلاقة بين الذات والغير هي علاقة مركبة ومعقدة لان مضمون هذه العلاقة يتراوح بين الصداقة والكراهية ، الحب والعداوة ، التعصب والتسامح الوفاء والخيانة ، إجمالا يمكن الحديث عن نموذجين لهذه العلاقة : العلاقة الإيجابية ، العلاقة السلبية وبالتالي نتساءل لماذا يرتبط الأنا بالآخر برباط الصداقة هل نباءا على غاية أم اعتباره غاية في ذاته أم لأنه يشبهنا أم هو ضدنا ؟ أم هو مفيد لنا ... وفي نفس الوقت لماذا نرفض الآخر ونحاول إقصاءه وتكون علاقتنا معه علاقة صدام وكراهية ؟
8
- وجـــــود الغيـــر: I
تـــأطير إشكــــالي للمحــور:
على الرغم من أن جذور فلسفة الغير بدأت مع الفلسفة اليونانية إلا أنها ظلت حبيسة التناول الأنطولوجي (الوجود)، ولم تتعداه إلى الجانب المعرفي، غير أنها عادت بقوة في العصر الحديث مع الفيلسوف هيجل كرد فعل ضد فلسفة الأنا أو الذات لدى ديكارت، فإذا كان ديكارت قد اعتقد أن الأنا يوجد في استقلال عن الآخر، فإن الأمر يختلف مع هيجل الذي أكد على أن الأنا أو الذات لا يوجد من خلال الآخر. فكيف يتحدد هذا الوجود؟ وما نوع العلاقة التي تقوم بين الأنا والآخر؟
أطـــروحة ديكـــارت:
رأينا في درس الشخص كيف أن التصور الديكارتي ركز في بنائه على الشخصية الإنسانية على فعل التفكير، أنا أفكر إذن أنا موجود =COGITO باعتباره يقينا لا يقبل الشك، وحقيقة واضحة ومتميزة، ومعنى ذلك أن الأنا أو الذات هي حقيقة مكتفية بذاتها كذات مفكرة وموجودة وجودا ماديا بعد التفكير بدون أي وساطة، أي أنها، مكتفية بذاتها ومنعزلة عن الآخر ومستغنية عنه، وهي بذلك غير قادرة على إثبات الغير كأنا آخر، لأن وجود الذات (الأنا) يتأسس على فعل التفكير (=الوعي) وهو فعل داخلي ليس في حاجة إلى الغير أو الأغيار، لكن، إلى متى تظل الذات تشكل وعيا بذاتها بشكل معزول عن الآخر؟ أليس في وجود الغير ضرورة لتحقيق وجود الذات؟ بمعنى أليس وعي الأنا بذاتها هو وعي بالآخر؟
أطـــروحة هيــجل:
يعتقد هيجل أن وعي الذات(= الإنسان) لذاتها وللآخر لا يوجد كاملا منذ البداية، وإنما هو وعي يخضع للتشكل والتكون، وذلك من خلال مروره بمرحلتين : في المرحلة الأولى يكون وعي الأنا بذاته وبالآخر وعيا مباشرا، لا يرقى إلى مستوى الحقيقة، بسبب كونه لا يدرك الآخر البشري إلا كموضوع، إضافة إلى انغماسه في الحياة وعدم ارتقائه إلى مستوى التجريد.
بمعنى أن وعي الأنا بذاته وبالآخر لا يكون كاملا منذ البداية إنما يتجه نحو الاكتمال بالتدريج فيصبح حقيقة، إنه يبدأ كوعي مباشر منغمس في الحياة الغريزية، فهو يعي ذاته وعيا بسيطا ويدرك الآخر كمجرد موضوع، لا يختلف عن غيره من موضوعات العالم (أشيائه). إن الأنا في هذه المرحلة لا يعي الآخر كذات مماثلة له، ومختلفة عنه، كذلك الآخر عندما يدرك الأنا فهو يدركه كموضوع ولا يدركه كذات واعية، هكذا فالأنا والآخر يكونان في البداية وعيا غير كامل عن بضها، في المرحلة الثانية من نمو الوعي، لا تعود الذات تعي نفسها كوجود مباشر وكإنغماس في الحياة، إنما تقدم نفسها أمام الآخر بوصفها تجريدا خالصا، وكذلك هو الأمر بالنسبة للوعي الذي يقوم به الآخر تجاه الأنا والذات.
بمعنى أن وعي الأنا بذاته وبالآخر في هذه المرحلة الثانية لا يعود مرتبطا بالمحسوس المباشر، ويسمو عن مستوى الغرائز التي تشير إلى الحياة الحيوانية، ليرقى إلى مستوى تجريدي خالص، وهذا الارتقاء في وعي الأنا لذاته وللآخر ينطبق كذلك على وعي الآخر للأنا
هذا الارتقاء في الوعي من مستوى مباشر إلى مستوى مجرد، من مستوى اللايقين إلى مستوى اليقين لا يتم إلا من خلال الصراع الذي يدخل فيه كل من الأنا والآخر، إذ يعمل كل منهما على موت ضده، فالأنا والآخر يجبران بالضرورة على الانخراط في هذا الصراع الذي يدل على أن كل منهما يخاطر بحياته للحفاظ على حريته. وهذه المخاطرة بالحياة حسب هيجل، هي الدليل على أن وعي الذات لم يعد وعيا مباشرا منغمسا في الحياة، وإنما ارتقى إلى مستوى الاعتراف به كوعي لذاته وكحقيقة.
هذا الصراع بين الأنا والآخر هو من أجل الحياة والموت. ولكن يجب أن لا ينتهي إلى الموت، لأن في ذلك إلغاء للحقيقة واليقين الذاتي، وإنما ينتهي باستسلام أحدهما للآخر.
بمعنى أن العلاقة الصراعية التي تقوم بالضرورة بين الأنا والآخر والتي تستهدف الحياة أو الموت ينبغي أن لا تنتهي إلى الموت، فتفضيل الموت من كلا الطرفين هو إلغاء للحقيقة واليقين الذاتي، فلو مات أحد الطرفين فكيف للطرف الثاني أن يعي ذاته وأن يحقق وجوده وحياته، إذ، لا يمكن للأنا أن يعي ذاته وأن يحقق وجوده إلا من خلال الآخر (ضرورة الآخر= الآخر شرط وجود الأنا) إن هذه العلاقة الصراعية الضرورية يجب أن تفضل الحياة، لهذا لا يمكنها إلا أن تنتهي بهذه النهاية وهي وجود وعيين متعارضين : أحدهما وعي مستقل تقوم ماهيته في كونه وجود لذاته، والثاني وعي تابع تقوم ماهيته في كونه وجودا من أجل الآخر( أي أن أحدهما سيد والآخر عبد).
مما يترتب عن ذلك ضرورة وجود الآخر بالنسبة للأنا وتوقف وعي الأنا لذاته على وجود الآخر." سارتر".
تركيـــــــب وتعليــــــق:
إن وعي الأنا لذاته وللآخر وكذلك وعي الآخر لذاته وللأنا لا يوجد كاملا منذ البداية، وإنما ينبثق من العلاقة التي تربط الأنا بالآخر وتنمو بالتدريج إلى أن يصبح حقيقة أو يقينا. وما دامت كل ذات يجب أن تسمو بيقين وجودها إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاتها وللآخر، وجب أن تدخل في صراع مع هذا الآخر، وهو صراع ينبغي أن يقوم على تفضيل الحياة على الموت، مما يجعله ينتهي إلى وجود نوعين متقابلين من الوعي : وعي هو وجود لذاته، ووعي هو وجود لغيره. الأمر الذي يجعل وجود كل من الأنا والغير ضروري بالنسبة للآخر، فالأنا لا يكون أنا إلا بالعلاقة مع الغير، أي، مع أنا آخر.
إن وجود الغير ضروري لوجود الأنا ومكون له وليس مجرد وجود جائز وهو ما يؤكد عليه سارتر حين يقول" لكي أتوصل إلى حقيقة كيفما كانت حول ذاتي لابد لي أن أمر عبر الآخر(الغير)، إن الآخر لا غنىً عنه بوجوده، كما لا غنىً لي عنه في معرفتي لنفسي ".
إن ما سبق يظهر التناقص الحاصل بين التمثلين : الديكارتي والهيجلي، ففي الوقت الذي يقصي فيه ديكارت وجود الغير، يعتبره هيجل وجودا ضروريا. وهذا يتولد عنه السؤال التالي : هل معرفة الغير ممكنة ؟ وكيف تتم معرفته؟.
:سارتر أطـــروحة
وأما جواب سارتر على السؤال المطروح فيتلخص في أطروحته التي تقول إن وجود الأنا ينطوي في ذاته على ما يستلزم وجود الآخر، ويجعل إدراكه أمرا بديهيا ، ومعناه إدراك الغير إدراكا فوريا مباشرا باعتباره ذاتا واعية لا موضوعا.
9
ويتجلى الغير للأنا باعتباره ذاتا عندما يجد نفسه وجها لوجه مع شخص آخر في وضعية حرجة؛ ومن أمثلة ذلك تجربة الخجل التي قام سارتر بتحليلها في كتابه المشهور "الوجود والعدم". يدعونا سارتر إلى أن نتأمل معه حالة رجل يسترق السمع من خلال ثقب الباب على ما يدور بين شخصين في إحدى الغرف؛ وبينما كان منهمكا في فعلته سمع وقع خطى من خلفه؛ التفت فإذا به يرى شخصا ماثلا أمام عينيه، فانتابه على الفور شعور شديد بالخجل. وما كان ليشعر بالخجل لولا أنه أدرك على الفور إدراكا يقينيا لا مجال للشك فيه أنه في مواجهة ذات واعية، ذات حولته بنظرتها على الفور إلى موضوع.
قام سارتر بتحليل تجربة الخجل لدى الشخص المتلصص لبيان ما يطرأ على الوعي من تحولات؛ وبدا له أن هذه التجربة تؤدي إلى حدوث نقلة في الحياة الشعورية للشخص المتلصص من حالة (أ) إلى حالة (ب):
( أ ) حالة الوعي الذاتي غير المفكر فيه، وهي الحالة التي يحصل فيها نوع من التماهي بيني وبين أفعالي، ولا أفكر فيها، ولا أصدر بشأنها أي حكم معياري: لا أقول عنها إنها جيدة أو سيئة، خيرة أو شريرة، وإنما أعيش التجربة بنوع من تلقائية والعفوية على طريقة الموجود لذاته le pour-soi..
(ب) حالة الوعي الذاتي غير المفكر فيه التي تصبح فيها الأنا موضوعا عندما ينظر الغير إليها. إن نظرة الغير إلي هي التي تمكنني من الوعي ببعض الأمور الذاتية التي ما كان من الممكن أن يحصل لي الوعي بها لولا نظرة الغير إلي وأنا في حالة تلبس؛ فعندما يراني الغير أدرك على الفور أن سلوكي مبتذل فأخجل من نفسي أمام الغير، أخجل من الطريقة التي أبدو بها للغير. إن حضور الغير في وعيي بوصفه ذاتا واعية هو الذي جعلني أخجل من نفسي.
فالخجل لا يحصل إلا عند ملاقاة الغير. وفي تجربة الخجل، تحولني نظرة الغير إلى موضوع، وتلغي وجودي كذات، وأبحث لنفسي عن مخرج من المأزق، ويكون رد فعلي الطبيعي هو العمل على موضعته وجعله موضوعا لي. فإذا كانت نظرته قد ألغت ذاتيتي وحولتني إلى موضوع، فإن نظرتي إليه سيكون لها نفس الأثر. ولكن علاقة التفاعل هذه ليست علاقة ثابتة، إنها علاقة جدلية، تتحول فيها الذات الفاعلة إلى موضوع ويتحول الموضوع بدوره إلى ذات واعية. إن موضعة الغير هي الطريقة الوحيدة لإثبات الذات وتميزها وتفردها. ولكن كل محاولة لإثبات الذات سرعان ما تبوء بالفشل، لأن كل طرف يلغي ذاتية الطرف الذي يريد أن يعترف له بخصوصيته الذاتية. وهكذا يكون كل طرف في حاجة إلى الطرف الآخر لإثبات ذاته وتميزه وتفرده ويلغيه في نفس الوقت كذات. وهذا التناقض هو ما يجعل العلاقات علاقات مضطربة وغير مستقرة.
المرجع : الاستاذ سايف عبد الرزاق
مدخل تمهيدي
الإنسان كائن يختلف اختلافا كليا عن الحيوان الذي لا يتخطى مجرد الإحساس بالذات، فالإنسان يعي ذاته في اللحظة التي يقول فيها " أنا " بحسب تصور هيجل، وهو ما يعني الإحساس بالتفرد والتمايز عن باقي الموجودات بما فيها الآخر سواء كان شبيها أو غريبا عن الذات، فالواقع البشري هو واقع اجتماعي ، حيث الإنسان يعيش تجربة الحياة المشتركة مع الآخر مادام الإنسان كائنا إجتماعيا، لا يولد الإنسان إنسانا وإنما يصبح كذلك ، فحتى الحمقى والمجانين يشاركوننا في الإنتماء للإنسانية ، إننا لسنا وحدنا في هذا العالم فالآخر موجود معنا حتى ولو كان بعيدا عنا، ما دام يشغل حيزا من تفكيرنا .
أما من الناحية الفلسفية فالغير هو"الآخر" " الأنا الذي ليس أنا" (سارتر) وفي مقابل ذلك يدل لفظ الآخر على مفهوم غير قابل للتعريف لأنه عام يشمل كل ما يقابل " الهُوَ هُوَ"Le même.
إن الغير من الوجهة الفلسفية هو " آخر وليس آخر، في نفس الوقت "، أي، " مخالف" و" مطابق" فهو"ليس الأنا" من جهة وهو "الآخر المماثل للأنا" من جهة ثانية.
ويقصد بالأنا الذات المفكرة العارفة لنفسها في مقابل الموضوعات المتميزة عنها وعن تفكيرها. كما يقصد بالأنا كذلك الوعي الذي تملكه الذات عن فرديتها. ومن هنا يتبين أن الأنا يحمل دلالة أخلاقية قيمية، عكس الموضوعات المفتقرة إلى الوعي والحرية.
ـ البناء الإشكالي للمفهوم:
- المحور الأول وجود الغير :I
على الرغم من أن جذور فلسفة الغير بدأت مع الفلسفة اليونانية إلا أنها ظلت حبيسة التناول الأنطولوجي (الوجود)، ولم تتعداه إلى الجانب المعرفي، غير أنها عادت بقوة في العصر الحديث مع الفيلسوف هيجل كرد فعل ضد فلسفة الأنا أو الذات لدى ديكارت، فإذا كان ديكارت قد اعتقد أن الأنا يوجد في استقلال عن الآخر، فإن الأمر يختلف مع هيجل الذي أكد على أن الأنا أو الذات لا يوجد من خلال الآخر. فكيف يتحدد هذا الوجود؟ وما نوع العلاقة التي تقوم بين الأنا والآخر؟ ما هي إذن طبيعة وجود الغير؟ وما هي طبيعة العلاقة بين الأنا والغير؟ وهل لأحدهما أن يوجد بمعزل عن الآخر؟
- المحور الثاني معرفة الغير:II
يتبين مما سبق أن الآخر موجود وجودا ماديا كما توجد الأشياء، وهو ما تبيّنه التجربة اليومية المعاشة، كما تبين لنا أن وجود الآخر البشري كأنا آخر ضروري لوجود الذات (أو الأنا)، ذلك ما يعني أن الوجود الإنساني وجود علائقي بيني وبين الآخر، وأن الكينونة الإنسانية الفردية لا يمكن إلا أن تمتد إلى خارج ذاتها، فتنشئ علاقات، بحيث يستحيل أن تكون معزولة، ومن بين هذه العلاقات العلاقة المعرفية. بداية هل معرفة الغير ممكنة؟ تم ما قيمة المعرفة التي يقيمها الأنا حول الآخر؟ وبعبارة أخرى هل يمكن للأنا أن يعرف الآخر معرفة دقيقة ؟
إذا كانت معرفة الآخر تقتضي التواصل، فما طبيعة هذا التواصل ؟ هل هو تواصل دون تشيئ أو استيلاب أو عنف ؟ وإذا كان دخول الأنا مع الغير في علاقات ضروريا فما الأوجه المختلفة لهذه العلاقات ؟
- المحور الثالث أوجه العلاقة مع الغير:III
سبق التأكيد على أن العلاقة بين الذات والغير هي علاقة مركبة ومعقدة لان مضمون هذه العلاقة يتراوح بين الصداقة والكراهية ، الحب والعداوة ، التعصب والتسامح الوفاء والخيانة ، إجمالا يمكن الحديث عن نموذجين لهذه العلاقة : العلاقة الإيجابية ، العلاقة السلبية وبالتالي نتساءل لماذا يرتبط الأنا بالآخر برباط الصداقة هل نباءا على غاية أم اعتباره غاية في ذاته أم لأنه يشبهنا أم هو ضدنا ؟ أم هو مفيد لنا ... وفي نفس الوقت لماذا نرفض الآخر ونحاول إقصاءه وتكون علاقتنا معه علاقة صدام وكراهية ؟
8
- وجـــــود الغيـــر: I
تـــأطير إشكــــالي للمحــور:
على الرغم من أن جذور فلسفة الغير بدأت مع الفلسفة اليونانية إلا أنها ظلت حبيسة التناول الأنطولوجي (الوجود)، ولم تتعداه إلى الجانب المعرفي، غير أنها عادت بقوة في العصر الحديث مع الفيلسوف هيجل كرد فعل ضد فلسفة الأنا أو الذات لدى ديكارت، فإذا كان ديكارت قد اعتقد أن الأنا يوجد في استقلال عن الآخر، فإن الأمر يختلف مع هيجل الذي أكد على أن الأنا أو الذات لا يوجد من خلال الآخر. فكيف يتحدد هذا الوجود؟ وما نوع العلاقة التي تقوم بين الأنا والآخر؟
أطـــروحة ديكـــارت:
رأينا في درس الشخص كيف أن التصور الديكارتي ركز في بنائه على الشخصية الإنسانية على فعل التفكير، أنا أفكر إذن أنا موجود =COGITO باعتباره يقينا لا يقبل الشك، وحقيقة واضحة ومتميزة، ومعنى ذلك أن الأنا أو الذات هي حقيقة مكتفية بذاتها كذات مفكرة وموجودة وجودا ماديا بعد التفكير بدون أي وساطة، أي أنها، مكتفية بذاتها ومنعزلة عن الآخر ومستغنية عنه، وهي بذلك غير قادرة على إثبات الغير كأنا آخر، لأن وجود الذات (الأنا) يتأسس على فعل التفكير (=الوعي) وهو فعل داخلي ليس في حاجة إلى الغير أو الأغيار، لكن، إلى متى تظل الذات تشكل وعيا بذاتها بشكل معزول عن الآخر؟ أليس في وجود الغير ضرورة لتحقيق وجود الذات؟ بمعنى أليس وعي الأنا بذاتها هو وعي بالآخر؟
أطـــروحة هيــجل:
يعتقد هيجل أن وعي الذات(= الإنسان) لذاتها وللآخر لا يوجد كاملا منذ البداية، وإنما هو وعي يخضع للتشكل والتكون، وذلك من خلال مروره بمرحلتين : في المرحلة الأولى يكون وعي الأنا بذاته وبالآخر وعيا مباشرا، لا يرقى إلى مستوى الحقيقة، بسبب كونه لا يدرك الآخر البشري إلا كموضوع، إضافة إلى انغماسه في الحياة وعدم ارتقائه إلى مستوى التجريد.
بمعنى أن وعي الأنا بذاته وبالآخر لا يكون كاملا منذ البداية إنما يتجه نحو الاكتمال بالتدريج فيصبح حقيقة، إنه يبدأ كوعي مباشر منغمس في الحياة الغريزية، فهو يعي ذاته وعيا بسيطا ويدرك الآخر كمجرد موضوع، لا يختلف عن غيره من موضوعات العالم (أشيائه). إن الأنا في هذه المرحلة لا يعي الآخر كذات مماثلة له، ومختلفة عنه، كذلك الآخر عندما يدرك الأنا فهو يدركه كموضوع ولا يدركه كذات واعية، هكذا فالأنا والآخر يكونان في البداية وعيا غير كامل عن بضها، في المرحلة الثانية من نمو الوعي، لا تعود الذات تعي نفسها كوجود مباشر وكإنغماس في الحياة، إنما تقدم نفسها أمام الآخر بوصفها تجريدا خالصا، وكذلك هو الأمر بالنسبة للوعي الذي يقوم به الآخر تجاه الأنا والذات.
بمعنى أن وعي الأنا بذاته وبالآخر في هذه المرحلة الثانية لا يعود مرتبطا بالمحسوس المباشر، ويسمو عن مستوى الغرائز التي تشير إلى الحياة الحيوانية، ليرقى إلى مستوى تجريدي خالص، وهذا الارتقاء في وعي الأنا لذاته وللآخر ينطبق كذلك على وعي الآخر للأنا
هذا الارتقاء في الوعي من مستوى مباشر إلى مستوى مجرد، من مستوى اللايقين إلى مستوى اليقين لا يتم إلا من خلال الصراع الذي يدخل فيه كل من الأنا والآخر، إذ يعمل كل منهما على موت ضده، فالأنا والآخر يجبران بالضرورة على الانخراط في هذا الصراع الذي يدل على أن كل منهما يخاطر بحياته للحفاظ على حريته. وهذه المخاطرة بالحياة حسب هيجل، هي الدليل على أن وعي الذات لم يعد وعيا مباشرا منغمسا في الحياة، وإنما ارتقى إلى مستوى الاعتراف به كوعي لذاته وكحقيقة.
هذا الصراع بين الأنا والآخر هو من أجل الحياة والموت. ولكن يجب أن لا ينتهي إلى الموت، لأن في ذلك إلغاء للحقيقة واليقين الذاتي، وإنما ينتهي باستسلام أحدهما للآخر.
بمعنى أن العلاقة الصراعية التي تقوم بالضرورة بين الأنا والآخر والتي تستهدف الحياة أو الموت ينبغي أن لا تنتهي إلى الموت، فتفضيل الموت من كلا الطرفين هو إلغاء للحقيقة واليقين الذاتي، فلو مات أحد الطرفين فكيف للطرف الثاني أن يعي ذاته وأن يحقق وجوده وحياته، إذ، لا يمكن للأنا أن يعي ذاته وأن يحقق وجوده إلا من خلال الآخر (ضرورة الآخر= الآخر شرط وجود الأنا) إن هذه العلاقة الصراعية الضرورية يجب أن تفضل الحياة، لهذا لا يمكنها إلا أن تنتهي بهذه النهاية وهي وجود وعيين متعارضين : أحدهما وعي مستقل تقوم ماهيته في كونه وجود لذاته، والثاني وعي تابع تقوم ماهيته في كونه وجودا من أجل الآخر( أي أن أحدهما سيد والآخر عبد).
مما يترتب عن ذلك ضرورة وجود الآخر بالنسبة للأنا وتوقف وعي الأنا لذاته على وجود الآخر." سارتر".
تركيـــــــب وتعليــــــق:
إن وعي الأنا لذاته وللآخر وكذلك وعي الآخر لذاته وللأنا لا يوجد كاملا منذ البداية، وإنما ينبثق من العلاقة التي تربط الأنا بالآخر وتنمو بالتدريج إلى أن يصبح حقيقة أو يقينا. وما دامت كل ذات يجب أن تسمو بيقين وجودها إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاتها وللآخر، وجب أن تدخل في صراع مع هذا الآخر، وهو صراع ينبغي أن يقوم على تفضيل الحياة على الموت، مما يجعله ينتهي إلى وجود نوعين متقابلين من الوعي : وعي هو وجود لذاته، ووعي هو وجود لغيره. الأمر الذي يجعل وجود كل من الأنا والغير ضروري بالنسبة للآخر، فالأنا لا يكون أنا إلا بالعلاقة مع الغير، أي، مع أنا آخر.
إن وجود الغير ضروري لوجود الأنا ومكون له وليس مجرد وجود جائز وهو ما يؤكد عليه سارتر حين يقول" لكي أتوصل إلى حقيقة كيفما كانت حول ذاتي لابد لي أن أمر عبر الآخر(الغير)، إن الآخر لا غنىً عنه بوجوده، كما لا غنىً لي عنه في معرفتي لنفسي ".
إن ما سبق يظهر التناقص الحاصل بين التمثلين : الديكارتي والهيجلي، ففي الوقت الذي يقصي فيه ديكارت وجود الغير، يعتبره هيجل وجودا ضروريا. وهذا يتولد عنه السؤال التالي : هل معرفة الغير ممكنة ؟ وكيف تتم معرفته؟.
:سارتر أطـــروحة
وأما جواب سارتر على السؤال المطروح فيتلخص في أطروحته التي تقول إن وجود الأنا ينطوي في ذاته على ما يستلزم وجود الآخر، ويجعل إدراكه أمرا بديهيا ، ومعناه إدراك الغير إدراكا فوريا مباشرا باعتباره ذاتا واعية لا موضوعا.
9
ويتجلى الغير للأنا باعتباره ذاتا عندما يجد نفسه وجها لوجه مع شخص آخر في وضعية حرجة؛ ومن أمثلة ذلك تجربة الخجل التي قام سارتر بتحليلها في كتابه المشهور "الوجود والعدم". يدعونا سارتر إلى أن نتأمل معه حالة رجل يسترق السمع من خلال ثقب الباب على ما يدور بين شخصين في إحدى الغرف؛ وبينما كان منهمكا في فعلته سمع وقع خطى من خلفه؛ التفت فإذا به يرى شخصا ماثلا أمام عينيه، فانتابه على الفور شعور شديد بالخجل. وما كان ليشعر بالخجل لولا أنه أدرك على الفور إدراكا يقينيا لا مجال للشك فيه أنه في مواجهة ذات واعية، ذات حولته بنظرتها على الفور إلى موضوع.
قام سارتر بتحليل تجربة الخجل لدى الشخص المتلصص لبيان ما يطرأ على الوعي من تحولات؛ وبدا له أن هذه التجربة تؤدي إلى حدوث نقلة في الحياة الشعورية للشخص المتلصص من حالة (أ) إلى حالة (ب):
( أ ) حالة الوعي الذاتي غير المفكر فيه، وهي الحالة التي يحصل فيها نوع من التماهي بيني وبين أفعالي، ولا أفكر فيها، ولا أصدر بشأنها أي حكم معياري: لا أقول عنها إنها جيدة أو سيئة، خيرة أو شريرة، وإنما أعيش التجربة بنوع من تلقائية والعفوية على طريقة الموجود لذاته le pour-soi..
(ب) حالة الوعي الذاتي غير المفكر فيه التي تصبح فيها الأنا موضوعا عندما ينظر الغير إليها. إن نظرة الغير إلي هي التي تمكنني من الوعي ببعض الأمور الذاتية التي ما كان من الممكن أن يحصل لي الوعي بها لولا نظرة الغير إلي وأنا في حالة تلبس؛ فعندما يراني الغير أدرك على الفور أن سلوكي مبتذل فأخجل من نفسي أمام الغير، أخجل من الطريقة التي أبدو بها للغير. إن حضور الغير في وعيي بوصفه ذاتا واعية هو الذي جعلني أخجل من نفسي.
فالخجل لا يحصل إلا عند ملاقاة الغير. وفي تجربة الخجل، تحولني نظرة الغير إلى موضوع، وتلغي وجودي كذات، وأبحث لنفسي عن مخرج من المأزق، ويكون رد فعلي الطبيعي هو العمل على موضعته وجعله موضوعا لي. فإذا كانت نظرته قد ألغت ذاتيتي وحولتني إلى موضوع، فإن نظرتي إليه سيكون لها نفس الأثر. ولكن علاقة التفاعل هذه ليست علاقة ثابتة، إنها علاقة جدلية، تتحول فيها الذات الفاعلة إلى موضوع ويتحول الموضوع بدوره إلى ذات واعية. إن موضعة الغير هي الطريقة الوحيدة لإثبات الذات وتميزها وتفردها. ولكن كل محاولة لإثبات الذات سرعان ما تبوء بالفشل، لأن كل طرف يلغي ذاتية الطرف الذي يريد أن يعترف له بخصوصيته الذاتية. وهكذا يكون كل طرف في حاجة إلى الطرف الآخر لإثبات ذاته وتميزه وتفرده ويلغيه في نفس الوقت كذات. وهذا التناقض هو ما يجعل العلاقات علاقات مضطربة وغير مستقرة.
المرجع : الاستاذ سايف عبد الرزاق
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire